“الإغاثة الثوريّة” في السودان: التضامن لا المعونة
“فقدتُ ابنتي بسبب سوء التغذية وعدم توفّر الرعاية الصحّية المناسبة”، يقول العمّ أسامة اسمٌ مستعار. ، مزارعٌ يبلغ من العمر 67 عامًا، ويعيش في مدينة الضعين، شرق دارفور. يروي لنا قصّته المؤلمة: “كانت ابنتي تعاني سوء التغذية، فأخذتها إلى القسم المختصّ في مستشفى الضعين… لكن بينما كانت ترقد هناك، قصف الطيران الحربيّ المستشفى، فاضطُررنا لإعادتها إلى المنزل، حيث توفّيَت لاحقًا”.
قصّة العمّ أسامة ليسَت حادثةً فرديّة، بل هي حال مئات آلاف السودانيّين الذين يصارعون للبقاء وسط حربٍ رهيبةٍ حرمَتهم الأمان، والغذاء، والدّواء.
للشهر السابع عشر على التوالي، وبفعل الصّمت المُطبق والمشكلات المعقّدة التي ألمّت بقطاع العون، تتراجع مؤشّرات الحماية والأمن الغذائيّ في السودان، يُضاف إلى ذلك العرقلة المتعمّدة على يد الجهات المتقاتِلة، ما يحدّ من إمكانية وصول جهود الإغاثة لإنقاذ الأرواح وصون كرامة الناس في مناطق واسعة. لكن على العالم أن يفعل شيئًا ما لإيقاف آلة الحرب الطاحنة وإزالة آثارها المفزعة. إنّ إرساء عمليات عونٍ تكامليةٍ لا تدعم بقاء السودانيّين فحسب، بل من شأنها أن تُرشد وتقود عمليّاتٍ مماثلةً في أماكن أخرى من العالم، حيث يرزح كثيرون تحت وطأة العنف والفقر.
في منتصف شهر أبريل 2023، استيقظ السودانيّون على اندلاع نزاعٍ مسلّحٍ بين القوّتَين العسكريّتَين الكبريَين في البلاد: القوات المسلّحة السودانية من جهة، وقوات الدعم السريع من جهةٍ أخرى اندلعَ النزاع بعد فشل المفاوضات الساعية إلى دمج قوات الدعم السريع بالقوّات المسلّحة، وهو البند الأكثر سخونةً بين بنود الاتفاق الإطاري الذي أطلقَته قوى سياسيةٌ إلى جانب القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بهدف إبعاد العسكر عن السياسة والاقتصاد، وغير ذلك من القضايا التي أصبحَت اليوم أضغاث أحلامٍ بفعل الحرب. . دارَت الحرب في المدن المكتظّة بالسكان، متسبّبةً بحالٍ من “الفوضى والموت والدمار، طالَت تقريبًا مجمَل البُنى التحتية في العاصمة الخرطوم، ومزّقَت النسيجَ الاجتماعي المُثخن بالجراح بعد تاريخٍ طويل من الحرب الأهلية وغياب المشروع الوطني الموحّد.
“أحد أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث”
اتسعَت دائرة النزاع سريعًا، وتفاقمَت أعداد القتلى والجرحى، واكتظّت المُدُن الآمنة بالسكان الفارّين من أتون الجحيم، لاسيّما الخرطوم ونيالا. وأثقلَت هذه الأعداد الغفيرة من النازحين والمحتاجين للخدمات الصحية نظامَ الخدمات الأساسية في كلٍّ من الخرطوم، ومدني، ونيالا، وكوستي. وتجدر الإشارة إلى أنّ النظام الصحّي في الخرطوم، والذي بدأ يخضع للخصخَصة قبل عامَين من هذه الحرب، شرَع بالتداعي والانهيار. فبحلول شهر مايو، وسط تصاعد وتيرة العنف والنهب، خرج حوالي 66% من مستشفيات الخرطوم عن الخدمة، فيما عجزَت المراكز الصحية الصغيرة في أطراف العاصمة عن استيعاب الكمّ الهائل من المحتاجين للرعاية. من جهةٍ أخرى، بدأ مقدّمو الرعاية الصحّية، وعاملو الإغاثة، وموظّفو الخدمة المدنية، يواجهون صعوباتٍ بالغةً في مواصلة أعمالهم بفعل تردّي الوضع الأمني في مناطق النزاع.
هذه العوامل مجتمعةً أدّت إلى انهيار النظام الصحّي المرتبط بالمنظّمات الدولية في الخرطوم، وتوقّف أنشطة التحصين، وخدمات بنك الدم، ومراكز غسيل الكلى، و خدمات رعاية الأشخاص المتعايشين مع مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز). بالإضافة إلى ذلك، تعطّلَت خدماتُ الحماية والدعم النفسي للناجيات من الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، بما في ذلك تلك المقدّمة عبر منصّاتٍ إلكترونيةٍ أنشأَتها ناشطاتٌ وطبيبات. كما ذهبَت مؤسّسات الرعاية الاجتماعية أدراج الرياح، فتوقّف الصندوق القومي للتأمين الصحي عن العمل تمامًا، شأنه شأن صندوق المعاشات، ويوان الزكاة الذي كان وحده مسؤولًا عن توفير %70 من مجمل الموارد المالية الحكومية المخصّصة للحماية الاجتماعية.
بحلول شهر أبريل، وصلَت الإغاثة الإنسانية في المناطق المتضرّرة إلى طريقٍ مسدود، حتى أنّ مارتن غريفيث، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، وصفَ الوضع بأنّه “أحد أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث”. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحدّ، ففي سبتمبر الماضي، أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أنّ عامليه “لم يصِلوا إلا لحوالي 3.7 مليون شخص من أصل 26 مليون شخصٍ بحاجةٍ عاجلةٍ للإغاثة (حوالي نصف عدد السكان الإجمالي). ، وعانَت خطة الاستجابة الإنسانية التي جرى تنقيحها في مايو 2023 عجزًا في توفير التمويل اللازم لتنفيذها، كما تعاني خطة العام 2024 المشكلة نفسها، إذ جُمع ما نسبته %33.5 فقط من مجمل الاحتياجات المالية الكافية لتقديم العون للسودانيّين”. بالتوازي مع ذلك، عانى القطاع الإنساني عوائق تشغيليةً وبيروقراطية، تمثّلَت في صعوبة الحصول على التأشيرات وتصاريح السفر اللازمة، والتدخّلات في البرمَجة، وإعاقة وصول المساعدات إلى المحتاجين ونهبها، بالإضافة إلى مشكلاتٍ تتعلّق بتوفّر الكهرباء والمياه، وتوقّف العمليّات اللوجستية والخدمات المصرفيّة في عددٍ كبيرٍ من مُدُن دارفور، وكردفان، ووسط السودان.
المجتمعات المحلّية تُبادِر: التضامن لا المعونة
وسط الأوضاع المرعبة، وأصداء الهزيمة التي طالت النظام المركزي للحكومة ومنظومة المساعدات، برز وجهٌ آخر أكثر إشراقًا، وإن سعى طرفا النزاع إلى طمسه إما بالعنف أو بالاستقطاب. فمنذ اليوم الأول للحرب، أطلق المجتمع المحلّي السوداني مبادراتٍ إغاثيةً متنوّعة، بما في ذلك تبادل المساعدات وتقديم خدماتٍ مجانيةٍ للمحتاجين، مثبتًا قدراتٍ مذهلةً ومثيرةً للإعجاب بالرغم من أهمّيتها وشجاعتها، يصعب تحديد حجم هذه الجهود المجتمعية التلقائية ومدى تأثيرها، نظرًا لاتساع الرُّقع الجغرافية لتلك الجهود وتنوّع أشكالها. . بالعودة إلى العمّ أسامة في الضعين، شرق دارفور، يُخبرنا أنّه لا يستطيع الحصول على أدويته إلا “بدعمٍ من الخيّرين”، في ظلّ غياب أيّ مساعداتٍ حكومية.
سلام اسمٌ مستعار. سيّدةٌ متطوّعةٌ في إحدى غرف الطوارئ في وسط السودان، تحدّثنا بينما تعمل في مطبخ الغرفة، وتُشرف على إعداد الوجبات لتوزيعها على الأُسَر، والنازحين في مراكز الإيواء، وكذلك الطلّاب والمعلّمين في المدينة. تقول “نبدأ يومنا في السادسة صباحنا، نُعدّ الوجبات، ثم أُشرف أنا على توزيعها… عادةً ما يكون اليوم مليئًا بالمشقّات، لكن في نهايته، نشعر بالرضى والفخر لكوننا أنجزنا مهمّتنا تجاه مجتمعنا”.
هكذا، تتجلّى قيَم الرحمة والتضامن والإنسانية في جهود السودانيّين التي باتت تُعرَف بالمساعدات التطوعية المتبادلة، أو التي يقودها الناجون والمجتمع المحلّي. انبثق إذن اتجاهٌ إغاثيٌّ ثوريٌّ عماده التضامن لا المعونة، تمثّل في تلك الجهود العفوية التي قادها مئات الآلاف من المواطنين بجهودٍ فرديةٍ وجماعية، على الأرض وعبر المنصّات الإلكترونية، مُستجيبين لملايين طلبات المساعدة والعون تتّسم جهود المساعدة التطوعية المتبادلة التي يقودها المجتمع المحلّي في السودان بعدم تنسيق عمليّاتها ضمن مجالس وأجسامٍ تنسيقية، وعدم اعتمادها أُطُرَ الخطط والمدخَلات التفصيليّة أسوةً بالجهات الإنسانية المحترفة – وإن ظهرَت مؤخرًا مجالس تنسيقية على المستوى المحلّي في بعض المناطق. كما أنّ غرف الطوارئ، مثلًا، لا تبذل جهودًا كبيرةً في قياس نطاق أنشطتها وتقدير تأثيرها. لذا، من المفيد أن تقوم كيانات التنسيق والتتبّع التابعة للمنظّمات الإغاثية المحترفة بدراسة تلك الجهود المحلّية التطوعية، بغية إظهار أهمّيتها والتعلّم من ميزاتها وخبراتها. . بالطبع، لا يخلو العمل التطوّعي من لحظاتٍ “يختلط فيها الحزنُ بالفرح”، بحسب تعبير سلام. مثلًا، تُخبرنا عن لحظاتٍ صعبةٍ عاشَتها عندما رأَت صفًا من الأطفال بانتظار وجبتهم الوحيدة خارج أسوار المدرسة، “أصابني الحزن، شعرتُ بأنّهم يجب أن يكونوا داخل المدرسة، لا في صفوف انتظار الطعام”.
وبالتوازي مع هذه الجهود العفوية والفردية، برزَت أشكالٌ أخرى أكثر تنظيمًا، مثل غرف الطوارئ، ولجان الأحياء، ومجموعات الحماية، وغرف الطوارئ النسوية، إلى جانب مجموعاتٍ شعبيةٍ ضمّت جماعاتٍ نسويةً وشبابيةً ودينية، وتكتّلات رجال الأعمال والنقابات والقادة التقليديّين. انبلج الربيع في أبريل ليشهد نشاط حوالي مئة غرفة طوارئ على امتداد المدن السودانية، وسرعان ما تضاعف العددُ مع مرور 500 يومٍ على الحرب. كما استقطبَت هذه المجموعات مئات الآلاف من الدولارات في أشهرٍ قليلة.
على سبيل المثال، نجح فنّيو الكهرباء والمياه والاتصالات في إعادة الخدمات إلى المستشفيات والمراكز الصحية في المناطق الجنوبية والشرقية من العاصمة، بعد أن حوّلها المتقاتِلون إلى مدينة أشباح. كما أدّى صغار التجّار وسائقو المركبات وعمّال غرف النقل دورًا حيويًا في تأمين نقل المواطنين الفارّين من الخرطوم إلى مناطق مختلفة، بينما غطّت التحويلات المالية وتبرّعات الأهالي والمغتربين نفقات عددٍ كبيرٍ من الأُسَر المحتاجة للرعاية الصحّية والغذاء. كذلك افتُتحَت مطابخ عموميّة وأُنشئَت نقاط تجمّعٍ لتوزيع الطعام (التكية) في الأحياء ومراكز الإيواء المنتشرة في جميع ولايات السودان. وتشمل أشكال التضامن المجتمعي أيضًا مساعداتٍ متبادلة، مثل تنسيق طُرُق الهروب، والاستعلام عن الممرّات الآمنة، وتوفير الوقود وخدمات الصيانة، وتبادل المعلومات الحيويّة مثل المعلومات المتعلّقة بكيفيّة حفر الخنادق، والتعامل مع الذخائر والأجسام غير المنفجرة، وتأمين طُرق التجارة ومداخل القرى، وصنع الأدوية البلدية، ومهارات الإسعافات الأولية. ، والتعامل مع الذخائر غير المنفجرة.
بالتوازي مع ذلك، برزَت الجهود الجماعية المحلّية التي قام بها القادة التقليديّون والمجموعات الشبابية والنسائية، في التفاوض على هدنٍ محلّيةٍ لوقف إطلاق النار، ما ساهم في تحويل مسارات النزاع، والحفاظ على ممرّاتٍ آمنةٍ لينتقل نحو 150 ألف شخصٍ من جنوب كردفان إلى مناطق أكثر أمانًا. ففي الضعين مثلًا، نجحَت تلك الجهود في إرساء هدنةٍ امتدّت على ثمانية أشهر، كما أدّت إلى إطلاق سراح أسرى مدنيّين كانت احتجزَتهم الأطراف المتقاتِلة. أما الحملات الإعلامية ومبادرات المناصرة الشعبية التي رفعَت الصّوت علنًا ضدّ الحرب، فنجحَت في لفت أنظار العالم والمنظمات الحقوقية الدولية إلى الأهوال والفظائع المرتكَبة، إذ ألقَت بالضوء على حالات سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي، ونُذُر المجاعة التي تلوح في الأفق في كردفان ودارفور.
في سياقٍ متّصل، حصدَت الأصوات السودانية تضامنًا عالميًا عبر توثيق الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، وتسليط الضوء عليها، ما دفع بمجلس حقوق الإنسان إلى تشكيل بعثةٍ دوليةٍ مستقلّةٍ لتقصّي الحقائق، وإجراء تحقيقاتٍ بواسطة المحكمة الجنائية الدولية في الارتكابات التي شهدَتها مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور. في الواقع، بوسع هذا الشّكل من المناصرة الجماعية أن يُترجِم جهود التضامن السوداني إلى أجندةٍ سياسيةٍ تساعد لاحقًا في إنجاز عملية سلامٍ أساسها التضامن، بالرغم من الاستقطاب القبَلي والجهَوي الذي يمارسه طرفا النزاع.
نحو التكامل بين الجهود الدولية والمحلّية
بالرغم من شجاعة جهود المساعدات التطوعية المتبادلة وبسالتها، لا يمكن اعتبارها بديلًا للإغاثة التي تقودها الأمم المتحدة، بل ينبغي النظر إليها كتكملةٍ لها، لاسيّما وسط التدهور المستمرّ للأوضاع الإنسانية. ثمّة أهمّيةٌ استثنائيةٌ لإشراك الأفراد المتضرّرين من الأزمة لإرساء استجابةٍ مشتركةٍ ومتكاملةٍ وفعّالة، وكذلك لتعزيز الكرامة والتعافي النفسيّ والمرونة لدى المجتمع المحلّي بمختلف أطيافه. لذا، لا ينبغي التعامل مع الأهالي المتضرّرين بوصفهم ضحايا، بل شركاء ومُستجيبين أوائل في عمليّات الإغاثة الإنسانية يعود هذا الجمود المؤسّسي الى افتقار الوكالات الدولية إلى منهجيّاتٍ عمليةٍ تدعم بموجبها جهود المجتمعات المحلّية، من دون تقويض ثلاثية المساءلة، والشمول، والكفاءة. وبالرغم من أنّ اتباع المنهج التشاركيّ والوكالة المحلّية كان سائدًا في الأطوار التنموية، فإنّ تبنّي نهج الرابطة الثلاثية (الطور الإنساني والسلام والتنمية) يحتّم إيجاد منهجيةٍ أكثر مرونةً لتحقيق ذلك الهدف المعقّد. ونُشير إلى أنّ السودان يواجه عراقيل استثنائيّةً في هذا المضمار، أهمّها انخفاض معدّلات المشاركة في تصميم العمل الإنساني وقيادته، وهي لبنةٌ حاسمةٌ لضمان المشاركة المجتمعية في مفاوضات صنع السلام الحالية واللاحقة. . بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من تفعيل الجهود الدولية لدَعم الجهود المحلّية التطوعية. مثلًا، تعمل سلام في منطقةٍ تُعدّ من خطوط المواجهة، وغالبًا ما تداهمها وزملاءها المتطوّعين الاشتباكاتُ والمعارك في أثناء عملهم. “نحن نعمل في المناطق الأكثر حاجة، هذا واجبنا”، تقول سلام. وللاستمرار وسط هذه الظروف بالغة الصعوبة، “نحتاج بشكلٍ عاجلٍ إلى حجمٍ أكبر من التبرّعات المحلّية والخارجية، وإلى الموادّ العينيّة من جميع الأصناف… كما نحتاج للعمل مع منظّماتٍ إنسانيّةٍ محترِفة لتعزيز قدراتنا كي نستمرّ”، تشرح سلام.
في الواقع، بدأت ملامح هذا التكامل بين الجهود الدولية والمحلّية ترتسمُ منذ بداية النزاع، حيث بقي عددٌ غير قليلٍ من مقدّمي العون المحترفين في السودان، فيما نقلَت بعض الجهات عمليّاتها إلى مناطق آمنةٍ وواصلَت جهودها، حتى بعد مقتل ما لا يقلّ عن 19 عاملًا إنسانيًا، ونهب عددٍ كبيرٍ من المقرّات والمخازن وتدمير بعضها. كما ابتكر بعض العاملين الإنسانيّين طرقًا فريدةً لدعم غرف الطوارئ، واشتغلوا صلة وصلٍ بينها وبين الجهات المانحة، محافظين على درجةٍ عاليةٍ من الثقة لتسهيل التنسيق وتبادل المعلومات.
على أيّ حال، لتحقيق التكامل المنشود، ينبغي لأيّ جهودٍ دوليةٍ ومحلّيةٍ أن تضمن البنود الآتية:
1- ضمان ألّا تؤدّي جهود التكامل إلى تقويض استقلالية غرف الطوارئ وأشكال المساعدة المنظّمة القائمة على أساس الثقة والتماسك الاجتماعي. وعادةً ما تنتظم هذه الجهود على أُسسٍ جغرافية، وتعتمد نظامًا داخليًا أفقيًا عماده العمل الجماعيّ ضمن فِرَق. بإيجاز، يجب أن تسعى التدخّلات الخارجية والمحلّية إلى تعميق روح التضامن والتعاون.
2- تعزيز قدرات أعضاء لجان الأحياء وغرف الطوارئ، بمَن فيهم المتطوّعين وقادة المجتمع المحلّي، وتعريفهم بالأساليب والعمليّات والمهارات الضرورية لتقديم خدماتٍ فعّالةٍ مع مراعاة الجوانب الحقوقية المرتبطة بحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والمساواة الجندرية، وقضايا النوع الاجتماعي، إلخ. بالإضافة إلى تدريبهم على مهارات التنسيق الأفقي (مثل العمل الجماعي، وتعزيز الحماية، ومهارات الاتصال،)، والمهارات الرأسية (مثل الضغط السياسي، والمعرفة الإنسانية المحترفة، والمناصرة في سبيل العدالة). كما يجب تدريب عددٍ كبيرٍ من المتطوّعين على قيادة وتيسير نقاشاتٍ جماعيةٍ مع المجتمع المحلّي.
3- ضمان الاستفادة من جهود المساعدة التطوعية “لتقليل محفّزات ودوافع أطراف النزاع للتحكّم في إيصال المساعدات والتلاعب بها”، وذلك عبر إشراك الجهات المحلّية في تنسيق عمليات الإغاثة وتوزيع المعونة، وإجراء تمارين المساءَلة المستديمة.
4- ضمان مشاركة الجهات المحلّية والكيانات المجتمعية في عمليّات التخطيط، في حال قرّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية اعتماد منهاج النطاق الجغرافي في برمَجته. وتشمل تلك المشاركة إيكال مهمّة القيام باستقصاءاتٍ تقييميّةٍ لأفرادٍ من المجتمعات المحلّية، مع توفير صيَغٍ مبسّطةٍ ملائمةٍ محلّيًا، وباللغات المحكيّة إذا ما أمكن ذلك، لمساعدة الجماعات المحلّية في صياغة أفكارها بشأن خطط العمل والميزانيّات المقترحة.
5- استحداث آليّات تنسيقٍ محلّيةٍ بديلةٍ تكون بسيطةً وسهلة، تحلّ محلّ آليات التنسيق الحالية التي تعتمد نهج المجموعات القطاعية، والتي يقودها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. على سبيل المثال، يمكن للمانحين دعم إنشاء منصّاتٍ مؤقتةٍ أو دائمةٍ للتشاور مع المجتمع المحلّي وضمان الاستماع إليه، كما حدث في مؤتمر القاهرة لمناقشة الوضع الإنساني في السودان، والذي هدف إلى إنشاء منصّةٍ مفتوحةٍ للتنسيق بين الفاعلين الدوليّين والمبادرات المحلّية.
6- ضمان تعزيز التعلّم لدى متطوّعي لجان الأحياء وغرف الطوارئ، عن طريق مشاركة الدروس والتجارب بين مختلف المجموعات العاملة في المجال الإنساني، بما في ذلك البحوث والتقارير الموسّعة، وضمان تدفّق الموارد اللازمة لذلك. وينبغي على مطوّري البرامج ومختصّي التعلّم والبحوث داخل المنظّمات والوكالات الدولية إرساء آلياتٍ لتبادل الخبرات والدروس المستقاة، وتسليط الضوء على قصص النجاح بما يعزّز الثقة في المجتمع المحلّي، ويدعم جهود التوطين طويلة الأمد في السودان.
7- وضع خططِ الاستجابة للمجاعة في السودان عبر تحسين مدخلات الخبرة المحلّية التي تراكمَت على مدى عامَين من العمل الدؤوب والمباشر مع الفئات الأكثر هشاشةً واحتياجًا للدعم، ووسط سياقاتٍ متغيّرةٍ ومتقلّبةٍ على الأرض. ينبغي الاستفادة من أساليب التكيّف والتنسيق التي ابتدعَتها جهودُ الإغاثة المحلّية في هذا المضمار.
إنّ أشكال التضامن الشعبي التي انطلقَت عشيّة اندلاع النزاع تزرع الأمل في وجه اليأس والتفرقة، ليس في السودان فحسب، بل في جميع أنحاء العالم، وهي تستعصي على السّرد ومحاولات “القياس الكمّي”. إنّها شعلةٌ مضيئةٌ في فضاءٍ غمرَه ظلامٌ دامسٌ ودخانُ الحرب الكريه، لذا ينبغي أن تنال قسطها من الدعم والحياة، كي لا يفقد أبٌ آخر، مثل العمّ أسامة، فلذة كبده جوعًا ومرضًا.
عبد الله قريضة, باحثٌ سوادنيّ في الشؤون الإنسانية والسلام.
المراجع
“قراءة في أوضاع الحماية المدنية”، مدني عباس مدني، أغسطس 2023
“غرف الطوارئ: كيف أبقَت على جذوة الحياة في حرب السودان؟”، ألترا سودان، نوفمبر ٢٠٢٣
Sudan Humanitarian Access Situation Report (August – September 2023)
تعليقات