الابتكار في الاستجابة الانسانية: دعم المزارعين والطالبات والنساء في حربٍ طالَت
مؤسّسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة هي منظمةٌ طوعيةٌ غير ربحية، تأسّسَت في عام 2018 بموجب تصريحٍ صادر من مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بمحافظة حجّة في اليمن. تُعنى المؤسّسة بالمجالات التنموية والإغاثية والخيرية، وتركّز على تحسين نوعية الحياة للفئات المُستضعفة من خلال برامج ومشاريع مبتكرةٍ تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة.
في هذا المقال، تسرد مؤسّسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة قصصَ محمد، وريهام، وفاطمة، ثلاث من أهالي محافظة حجّة التي تقع شمال غرب العاصمة اليمنية صنعاء، لتكشف لنا معاناة الآلاف بسبب حربٍ طاحنةٍ اندلعَت في عام 2014 وما زالت مستعرة. في هذه القصص، نرى الآثار المدمّرة للحرب على الحياة اليومية لأبناء وبنات الشعب اليمني، لاسيّما المزارعين والنساء والفتيات، ونشهد على أحلامهم/ن وطموحاتهم/ن بحياةٍ أفضل، لعلّها لا تذهب سدًى.
محمد: الأرض وحيدةٌ وعطشى
”فقدتُ الأرض التي كانت مصدر رزقي“، يقول محمد، مزارعٌ يبلغ من العمر 35 عامًا، يعيش في قرية القاهرة بمديرية قفل شمر في محافظة حجّة. يروي لنا محمد قصّته فيقول: “كنتُ أمتلك قطعة أرضٍ كانت مصدر دخلٍ لي ولأسرتي، لكن منذ اندلاع الحرب في عام 2014، تفاقمَت معاناتنا كمزارعين وتدهور وضع أراضينا الزراعية، فأصابها الإهمال وتدنّى مستوى معيشتنا واضطررنا للنزوح من منطقتنا… تراجع وضعي المادي بعد أن نزحتُ وعائلتي وتركنا أرضنا، فلا نجد قوتًا يكفينا”.
هذه القصة ليسَت حادثةً فردية، بل هي حال مئات الآلاف من اليمنيّين الذين يصارعون للبقاء وسط حربٍ طاحنةٍ وطويلة الأمد، حرمَتهم الأمان والغذاء والمأوى. لكنّ فهم أوضاع الناس على أرض الواقع ضروري للعثور على الحلول، لذا سألنا محمد عن الأسباب الرئيسة لمعاناة المزارعين، فأجاب: “ثمّة أسبابٌ متداخلة تُعيق عمل المزارع وتفاقم أزمته، منها النقص الحاد في الموارد الأساسية كالمياه، وتقطّع السّبل للوصول إلى الأراضي والاعتناء بها، وإصابة المحاصيل بالآفات والأمراض وبالتالي تلفها، وانعدام فرص تسويق المحاصيل بسبب صعوبة التنقّل والحركة ما يؤدّي إلى كسادها وتكبّد المزارع خسائر فادحة”. بالإضافة إلى ذلك، تتسبّب الحرب المستمرّة بارتفاع أسعار الأسمدة والبذور وتكاليف النقل، وتعيق توفير منظومات الطاقة الشمسية وشبكات الرّي اللازمة للزراعة. بدوره، يؤدّي تراجع الزراعة إلى تدهور الأمن الغذائي في البلاد، بسبب انخفاض إنتاجية المحاصيل وارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة وسط انتشار الفقر والعوَز.
يحلم محمد بأن يعود إلى أرضه مع عائلته، فيزرعها ويعتني بها ويعتاش منها كما في زمنٍ مضى. “احتياجاتنا كثيرة، لكنّنا بحاجةٍ ماسّةٍ لتحسين إنتاجنا وزيادة دخلنا” يقول، ويتابع شارِحًا، “نحن بحاجةٍ إلى خزاناتٍ للرّي ومشاريع لتجميع مياه الأمطار، وتأسيس منظوماتٍ للطاقة الشمسيّة وشبكاتٍ للرّي، وتوفير أسمدةٍ وبذورٍ عالية الجودة لتحسين الإنتاجية، ومخازن لحفظ المحاصيل لفتراتٍ طويلة، وآليّاتٍ زراعيةٍ حديثةٍ لتسهيل العمل وزيادة الكفاية، وتحسين وضع الطرق لتسهيل حركة النقل، وتقديم الدعم الفنّي والمادي للمزارعين، وتزويدهم ببرامج توعويّةٍ وتدريبيّةٍ لتحديث طُرق عملهم”. الاحتياجاتُ كثيرةٌ فعلًا، لكنّ الموارد والفرص تبقى شبه منعدمة وسط نزاعٍ دامٍ دخل عامه الحادي عشر.
إزاء هذه الصورة القاتمة، تبرز مؤسسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة شريكًا استراتيجيًا في معركة إنعاش القطاع الزراعي. لم تكن استجابة المؤسسة مجرّد إغاثة عابرة، بل تحوّلت إلى خطةٍ متكاملةٍ تدمج بين الدعم الفوري وبناء حلولٍ مستدامة، انطلاقًا من إيمانها بأنّ إنقاذ الزراعة هو إنقاذٌ للاقتصاد وسُبُل العيش. لذا، أطلقَت المؤسسة حملة مناصرةٍ بالتعاون مع مكتب الزراعة بمحافظة حجّة، لتحويل الصعوبات إلى فرص. فبالإضافة إلى توفير البذور المُحسَّنة والأسمدة الحيوية لإنعاش الأراضي المتعبة، سعَت المؤسسة جاهدةً لتلبية احتياجات المزارعين المُلحّة لموارد الطاقة المستدامة عبر مفاوضاتٍ مكثفةٍ مع المنظمات الدولية، وإنجاز دراساتٍ علميةٍ وواقعيةٍ لسدّ الفجوات والتوصّل للحلول. وبما أنّ المؤسسة تؤمن بأنّ استمرارية المشروع تحتاج إلى دعمٍ مؤسّسي وعلمي، أجرَت دراساتٍ معمّقةً لقياس الأثر الاقتصادي والبيئي لمنظومات الطاقة الشمسية، بهدف استقطاب التمويل العالمي للاستثمار فيها. وفي حال تأمّن التمويل اللازم لتنفيذ منظومات الطاقة الشمسية المبتكرة هذه، فمن شأن ذلك التخفيف من أعباء تكاليف الرّي على المزارعين، ودعم الإنتاجية على المدى الطويل.
ريهام: تركَت الدراسة لتجمع الماء والحطب
ريهام طفلةٌ تبلغ من العمر 12 عامًا، وتعيش مع أهلها في إحدى قرى محافظة حجّة، اضطرّت إلى ترك مقاعد الدراسة بسبب صعوبة الظروف المعيشيّة.
تقول أمّ ريهام، “ابنتي تركت دراستها بسبب الظروف المادية الصعبة، لاسيّما بعد وفاة والدها. لديّ ثلاثة أطفالٍ إلى جانب ريهام، لذا أحتاج إليها لتجلب الماء والحطب. بالكاد أستطيع تأمين احتياجاتنا الأساسية، لذا أضطرّ لبيع الحطب وشراء قوتنا بثمنه. ريهام ابنتي تشعر بالإحباط وفقدان الأمل في بناء مستقبلٍ كانت تحلم به”.
كثيرٌ من فتيات الريف اليمني يتسرّبن من المدارس بسبب انتشار الفقر وتدهور الأوضاع المعيشية، أو عدم توفّر أيّ مدارس قريبةٍ في مناطق سكنهنّ، فيُجبرن على معاونة عائلاتهنّ في الأعمال المنزلية والزراعية، أو الزواج في سنّ مبكرةٍ وتحمّل أعباء تكوين أسرةٍ وإنجاب أطفال. ففي بعض المجتمعات، يُعتبر تعليم الفتاة ثانويًا مقارنةً بتعليم الولد، ما يؤدّي إلى التضحية بتعليمها كي يتابع إخوتها الذكور دراستهم.
إنّ الحرص على تعليم الفتيات والحدّ من تسرّبهنّ المدرسيّ ينبغي أن يكون من ضمن أولويّات الحكومة والمنظّمات غير الحكومية والمجتمعات المحلّية، من أجل تأمين مستقبلٍ أفضل للفتيات ولعائلاتهنّ ومجتمعهنّ الأكبر. بالإضافة إلى زيادة الوعي المجتمعيّ بأهمية تعليم الفتيات ودوره في تطوير المجتمع والبلاد، لا بدّ من تقديم الدعم المالي للأسر الفقيرة لتمكينها من تحمّل تكاليف التعليم والمواصلات لبناتهنّ، وتوفير المدارس والبنية التحتية اللازمة في المناطق الريفية والقرى. أما الفتيات المتسرّبات من المدارس، فينبغي توفير برامج الدعم النفسيّ والتلمذة المهنية لهنّ، بهدف خلق فرص عملٍ لهنّ ولأسرهنّ تضمن مستقبلهنّ.
تسعى مؤسّسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة إلى التصدّي لآثار التسرّب المدرسيّ في محافظة حجّة من خلال مشاريع وبرامج تدريبيّةٍ مخصّصةٍ للفتيات والنساء تهدف إلى إكسابهنّ مهاراتٍ عمليّة تمكّنهنّ من دخول سوق العمل. فمن خلال مشروع “تضافر”1، استهدفَت المؤسسة الفئات الأكثر هشاشة من الفتيات والفتيان المتسرّبين من المدارس عبر برامج “المهارات الحياتية” التي لم تعلّمهم القراءة والكتابة فحسب، بل زوّدَتهم بمهاراتٍ عمليةٍ من بينها إدارة الحوار وحلّ النزاعات. وركّز البرنامج بشكلٍ خاصٍّ على تمكين الفتيات عبر مشاريع صغيرة مُدرّة للدخل، حوّلتهنّ إلى رائدات أعمالٍ صغيراتٍ يُساهمن في إنعاش الاقتصاد الأُسَري ويستخدمن معارفهنّ أداةً للتمكين الذاتي والاقتصادي.
ولم يتوقّف الأمر هنا، فالفجوة بين التسرّب المدرسي وسوق العمل استدعَت تدخلًا استباقيًا. لذا، جاء برنامج “التلمذة المهنية” ليمنح الطلاب المنقطعين عن الدراسة فرصةً لتعلّم حِرفٍ يدويةٍ تُناسب احتياجات السوق المحلي، كالنجارة والحدادة والأشغال اليدوية. والأهم، أنّ البرنامج عمل على ربط التلامذة بفرص عملٍ حقيقية، بينما فتح أبوابًا جديدةً لعودة كثيرين إلى مقاعد الدراسة بعد إدراكهم أن التعليم والمهنة وَجهان لنهضةٍ واحدة.
اليوم، تُترجم المؤشّرات الإيجابية ثمرةَ هذه الجهود: طلابٌ عادوا إلى مدارسهم، وفتياتٌ يُدرن مشاريعهنّ الصغيرة، ومجتمعاتٌ بدأت تُؤمن أن التعليم ليس رفاهية، بل جسرٌ للخلاص من حلقة الفقر.
فاطمة: أنقل دلاء الماء كلّ يومٍ لأطفالي
فاطمة أمٌّ تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وتعيش في ناحية مستبأ في محافظة حجّة. “أعاني كثيرًا من عدم توفّر مياه الشرب” تقول فاطمة، “أستيقظ باكرًا جدًا قبل بزوغ الفجر وأقطع مسافاتٍ طويلةً لأحضر الماء من البئر الوحيدة في المنطقة… أنتظر دوري لساعاتٍ تحت أشّعة الشمس الحارقة”. لكن بعد كلّ هذه المعاناة، غالبًا ما تكون المياه التي تأتي بها فاطمة ملوّثة، فتُصيب طفلها بالإسهال الحادّ وتتسبّب بأمراضٍ معويّةٍ وتنفّسيةٍ لكثيرٍ من أهالي المنطقة. “لا أريد شيئًا. أريد فقط تأمين مياه شربٍ نظيفةٍ لأطفالي”، تقول فاطمة.
فاطمة واحدةٌ من بين آلاف النساء اليمنيّات اللواتي يتحمّلن مسؤولية إحضار مياه الشرب لعائلاتهنّ يوميًا، بسبب افتقار مناطقهنّ للبنية التحتية اللازمة من آبارٍ وشبكات مياهٍ وخزّاناتٍ توفّر مياهً نظيفةً صالحةً للشرب، وعجز معظم الأُسَر عن تحمّل تكاليف شراء مياهٍ نظيفة. لذا، تُضطرّ النسوة للمشي مسافاتٍ طويلة للوصول إلى البئر، فيُصَبن بالإعياء والتقرّحات الجلدية، ويُستنزَف وقتهنّ وطاقتهنّ ما يفاقم من أعبائهنّ الأسريّة والمنزلية، ويحرمهنّ من أخذ قسطٍ من الراحة أو المشاركة في الحياة الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، كما رأينا في قصة ريهام، يؤدّي نقص المياه إلى التسرّب المدرسيّ لدى الفتيات بسبب اضطرارهنّ لتحمّل مسؤولية إحضار المياه لعائلاتهنّ كلّ يوم.
استجابةً لهذا الواقع المؤلم في القرى اليمنية، حيث تتشقّق التربةُ عطشًا، وتتوه أحلام الفتيات بين دلاء المياه الفارغة والمدارس البعيدة، تدخّلَت مؤسسة الليث بتمويلٍ من مؤسسة عُلا المجد للتنمية، لتُعيد كتابة القصة. لم تكن الاستجابة مجرّد حفرِ آبارٍ تقليدية، بل تجديدٌ للبنية التحتية للمياه وفق منظورٍ تنموي شمولي. فمن خلال إعادة تأهيل البئر المهجورة وبناء خزّانٍ تجميعي، حوّلَت المؤسسة مصدرًا مائيًا مُنهكًا إلى شبكة حياةٍ متكاملةٍ تُغذّي المجتمع من دون تأخير، وتحمي الأُسَر من أخطار المياه الملوّثة. ولم ينته الأمر هنا، بل جرى دمج منظومة الطاقة الشمسية لتحوّل أشعّة الشمس الحارقة إلى طاقةٍ نظيفةٍ تُشغّل المضخّات، وتضمن استدامة تدفّق المياه من دون تكبّد تكاليف باهظة أو انتظار الوقود الشحيح.
في الواقع، تجاوز أثرُ هذا المشروع توفيرَ المياه النظيفة؛ فكانت الفتيات في طليعة المستفيدين. إذ بفضل تقليص ساعات الانتظار الطويلة لجلب المياه، عادت عشرات الفتيات إلى مدارسهنّ ليستكملن تعليمهنّ. كما أدركَت مؤسسة الليث أن المشروع لن يكتمل من دون وعي المجتمعات بأهمّية الحفاظ على المورد الجديد، فنفّذَت برامج توعيةٍ صحّيةٍ عن أهمية استخدام المياه النظيفة لتفادي الأمراض، وورش تدريبٍ عن ترشيد الاستخدام.
اليوم، تُقاس النتائج بأكثر من الأرقام: فتياتٌ يحملنَ كتبًا بدل الدلاء، وأمهاتٌ يبتسمنَ وهنّ يروينَ قصصًا عن أول يومٍ مدرسيٍّ لأطفالهنّ لم يختلط بدمع التعب، ومياهٌ تتدفّق تحت أشعة شمسٍ صارت حليفةً للحياة بدلًا من أن تكون لعنةً تُضاعف المعاناة.
هذه القصة ليست مجرّد “تدخّل مائي”، بل هي البرهان على أنّ حلولًا بسيطة – إذا ما نُفّذت بإبداع – قادرة على كسر حلقات الفقر والقهر المترابطة. فالماء هنا لم يروِ الظمأ فقط، بل أطفأ حرمانًا طال عقودًا، وذكّر العالم أنّ الحق في التعليم يبدأ أحيانًا بكوبٍ من المياه النظيفة.
لمعرفة المزيد عن مشاريع وبرامج مؤسّسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة والتواصل مع فريق العمل، تمكن زيارة الموقع الإلكتروني للمؤسّسة.
مؤسّسة الليث للتنمية والاستجابة الطارئة
تعليقات